فصل: الوقوف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.الوقوف:

{الم} كوفي. {لا يفتنون} o {الكاذبين} o {يسبقونا} ط {يحكمون}{لآت} ط {العليم} o {لنفسه} ط {العالمين} o {يعملون} o {حسنًا} ط {فلا تطعهما} ط {تعملون} o {الصالحين} o {كعذاب الله} ط {معكم} ط {العالمين} o {المنافقين} o {خطاياكم} ط {شيء} ط {لكاذبون} o {مع أثقالهم} ط فصلًا بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين. {يفترون} o {عامًا} ط لحق الحذف أي فلم يؤمنوا فأخذهم {الطوفان} ط {ظالمون} o {للعالمين} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)}.
المسألة الأولى:
في تعلق أول هذه السورة بما قبلها وفيه وجوه الأول: لما قال الله تعالى قبل هذه السورة: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ} [القصص: 85] وكان المراد منه أن يرده إلى مكة ظاهرًا غالبًا على الكفار ظافرًا طالبًا للثأر، وكان فيه احتمال مشاق القتال صعب على البعض ذلك فقال الله تعالى: {آلم أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءامَنَّا} ولا يؤمروا بالجهاد الوجه الثاني: هو أنه تعالى لما قال في أواخر السورة المتقدمة {وادع إلى رَبّكَ} [القصص: 87] وكان في الدعاء إليه الطعان والحراب والضراب، لأن النبي عليه السلام وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن الكفار بمجرد الدعاء فشق على البعض ذلك فقال: {أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُوا} الوجه الثالث: هو أنه تعالى لما قال في آخر السورة المتقدمة {كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه} ذكر بعده ما يبطل قول المنكرين للحشر فقال: {لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] يعني ليس كل شيء هالكًا من غير رجوع بل كل هالك وله رجوع إلى الله.
إذا تبين هذا، فاعلم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف فإنها مشاق في الحال ولا فائدة لها في المآل إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوال، فلا فائدة فيها.
فلما بين الله أنهم إليه يرجعون بين أن الأمر ليس على ما حسبوه، بل حسن التكليف ليثيب الشكور ويعذب الكفور فقال: {أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُوا} غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم.
المسألة الثانية:
في حكمة افتتاح هذه السورة بحروف من التهجي، ولنقدم عليه كلامًا كليًا في افتتاح السور بالحروف فنقول: الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو من يكون مشغول البال بشغل من الأشغال يقدم على الكلام المقصود شيئًا غيره ليلتفت المخاطب بسببه إليه ويقبل بقلبه عليه، ثم يشرع في المقصود.
إذا ثبت هذا فنقول ذلك المقدم على المقصود قد يكون كلامًا له معنى مفهوم، كقول القائل اسمع، واجعل بالك إلي، وكن لي، وقد يكون شيئًا هو في معنى الكلام المفهوم كقول القائل أزيد ويازيد وألا يازيد، وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتًا غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه، وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه.
ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والكلام المقصود كان أهم، كان المقدم على المقصود أكثر.
ولهذا ينادي القريب بالهمزة فيقال أزيد والبعيد بيا فيقال يا زيد، والغافل ينبه أولًا فيقال ألا يا زيد.
إذا ثبت هذا فنقول إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان يقظان الجنان لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن فكان يحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفًا هي كالمنبهات، ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف التي لها معنى، لأن تقديم الحروف إذا كان لإقبال السامع على المتكلم لسماع ما بعد ذلك فإذا كان ذلك المقدم كلامًا منظومًا وقولا مفهومًا فإذا سمعه السامع ربما يظن أنه كل المقصود ولا كلام له بعد ذلك فيقطع الالتفات عنه.
أما إذا سمع منه صوتًا بلا معنى يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود، فإذن تقديم الحروف التي لا معنى لها في الوضع على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة، فإن قال قائل فما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف؟ فنقول عقل البشر عن إدراك الأشياء الجزئية على تفاصيلها عاجز، والله أعلم بجميع الأشياء، لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول كل سورة في أوائلها حروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كقوله تعالى: {الم ذلك الكتاب} [البقرة: 1، 2] {الم الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} [آل عمران: 1 3] ، {المص كتاب أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 1، 2] ، {يس والقرءان} [ياس: 1، 2] ، {ص والقرءان} [ص: 1] {ق والقرءان} [ق: 1] ، {الم تَنزِيلُ الكتاب} [السجدة: 1، 2] ، {حم تَنزِيلُ الكتاب} [الجاثية: 1، 2] إلا ثلاث سور {كهعيصا} [مريم: 1] ، {الم أَحَسِبَ الناس} {الم غُلِبَتِ الروم} [الروم: 1، 2] والحكمة في افتتاح السور التي فيها القرآن أو التنزيل أو الكتاب بالحروف هي أن القرآن عظيم والإنزال له ثقل والكتاب له عبء كما قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] وكل سورة في أولها ذكر القرآن والكتاب والتنزيل قدم عليها منبه يوجب ثبات المخاطب لاستماعه، لا يقال كل سورة قرآن واستماعه استماع القرآن سواء كان فيها ذكر القرآن لفظًا أو لم يكن، فكان الواجب أن يكون في أوائل كل سورة منبه، وأيضًا فقد وردت سورة فيها ذكر الإنزال والكتاب ولم يذكر قبلها حروف كقوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [الكهف: 1] وقوله: {سُورَةٌ أنزلناها} [النور: 1] وقوله: {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان} [الفرقان: 1] وقوله: {إِنَّا أنزلناه في لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] لأنا نقول جوابًا عن الأول لا ريب في أن كل سورة من القرآن لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب مع أنها من القرآن تنبه على كل القرآن فإن قوله تعالى: {طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان} [طه: 1، 2] مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن فيصير مثاله مثال كتاب يرد من ملك على مملوكه فيه شغل ما، وكتاب آخر يرد منه عليه فيه: إنا كتبنا إليك كتبًا إليك كتبًا فيها أوامرنا فامتثلها، لا شك أن عبء الكتاب الآخر أكثر من ثقل الأول، وعن الثاني أن قوله: {الحمد للَّهِ وَتَبَارَكَ الذى} تسبيحات مقصودة وتسبيح الله لا يغفل عنه العبد فلا يحتاج إلى منبه بخلاف الأوامر والنواهي، وأما ذكر الكتاب فيها فلبيان وصف عظمة من له التسبيح {سُورَةٌ أنزلناها} قد بينا أنها من القرآن فيها ذكر إنزالها وفي السورة التي ذكرناها ذكر جميع القرآن فهو أعظم في النفس وأثقل.
وأما قوله تعالى: {إِنَّا أنزلناه} فنقول هذا ليس واردًا على مشغول القلب بشيء غيره بدليل أنه ذكر الكناية فيها وهي ترجع إلى مذكور سابق أو معلوم وقوله: {إِنَّا أنزلناه} الهاء راجع إلى معلوم عند النبي صلى الله عليه وسلم فكان متنبهًا له فلم ينبه، واعلم أن التنبيه قد حصل في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها كما في قوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شيء عَظِيمٌ} [الحج: 1] وقوله: {يا أيها النبى اتق الله} [الأحزاب: 1] {يا أيها النبى لِمَ تُحَرّمُ} [التحريم: 1] لأنها أشياء هائلة عظيمة، فإن تقوى الله حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها تنبيهًا، وأما هذه السورة افتتحت بالحروف وليس فيها الابتداء بالكتاب والقرآن، وذلك لأن القرآن ثقله وعبئه بما فيه من التكاليف والمعاني، وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال: {أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءامَنَّا} يعني لا يتركون بمجرد ذلك بل يؤمرون بأنواع من التكاليف فوجد المعنى الذي في السور التي فيها ذكر القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي فإن قيل مثل هذا الكلام، وفي معناه ورد في سورة التوبة وهو قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ} [التوبة: 16] ولم يقدم عليه حروف التهجي فنقول الجواب عنه في غاية الظهور، وهو أن هذا ابتداء كلام، ولهذا وقع الاستفهام بالهمزة فقال: {أَحَسِبَ} وذلك وسط كلام بدليل وقوع الاستفهام بأم والتنبيه يكون في أول الكلام لا في أثنائه، وأما {الم غُلِبَتِ الروم} [الروم: 1، 2] فسيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى هذا تمام الكلام في الحروف.
المسألة الثالثة:
في إعراب {الم} وقد ذكر تمام ذلك في سورة البقرة مع الوجوه المنقولة في تفسيره ونزيد هاهنا على ما ذكرناه أن الحروف لا إعراب لها لأنها جارية مجرى الأصوات المنبهة.
المسألة الرابعة:
في سبب نزول هذه الآيات وفيه أقوال: الأول: أنها نزلت في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وكانوا يعذبون بمكة الثاني: أنها نزلت في أقوام بمكة هاجروا وتبعهم الكفار فاستشهد بعضهم ونجا الباقون الثالث: أنها نزلت في مهجع بن عبد الله قتل يوم بدر.
المسألة الخامسة:
في التفسير قوله: {أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُوا} يعني أظنوا أنهم يتركون بمجرد قولهم آمنا وهم لا يفتنون لا يبتلون بالفرائض البدنية والمالية، واختلف أئمة النحو في قوله: {أَن يَقُولُوا} فقال بعضهم: أن يتركوا بأن يقولوا، وقال بعضهم: أن يتركوا يقولون آمنا، ومقتضى ظاهر هذا أنهم يمنعون من قولهم آمنا، كما يفهم من قول القائل تظن أنك تترك أن تضرب زيد أي تمنع من ذلك، وهذا بعيد فإن الله لا يمنع أحدًا من أن يقول آمنت، ولكن مراد هذا المفسر هو أنهم لا يتركون يقولون آمنا من غير ابتلاء فيمنعون من هذا المجموع بإيجاب الفرائض عليهم.
المسألة السادسة:
في الفوائد المعنوية وهي أن المقصود الأقصى من الخلق العبادة والمقصد الأعلى في العبادة حصول محبة الله كما ورد في الخبر «لا يزال العبد يتقرب إلي بالعبادة حتى أحبه وكل من كان قلبه أشد امتلأ من محبة الله فهو أعظم درجة عند الله» لكن للقلب ترجمان وهو اللسان، وللسان مصدقات هي الأعضاء، ولهذه المصدقات مزكيات فإذا قال الإنسان آمنت باللسان فقد ادعى محبة الله في الجنان، فلابد له من شهود فإذا استعمل الأركان في الإتيان بما عليه بنيان الإيمان حصل له على دعواه شهود مصدقات فإذا بذل في سبيل الله نفسه وماله، وزكى بترك ما سواه أعماله، زكى شهوده الذين صدقوه فيما قاله، فيحرر في جرائد المحبين اسمه، ويقرر في أقسام المقربين قسمه، وإليه الإشارة بقوله: {أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءامَنَّا} يعني أظنوا أن تقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهودهم بلا مزكين، بل لابد من ذلك جميعه ليكونوا من المحبين.
فائدة ثانية: وهي أن أدنى درجات العبد أن يكون مسلمًا فإن ما دونه دركات الكفر، فالإسلام أول درجة تحصل للعبد فإذا حصل له هذه المرتبة كتب اسمه وأثبت قسمه، لكن المستخدمين عند الملوك على أقسام منهم من يكون ناهضًا في شغله ماضيًا في فعله، فينقل من خدمة إلى خدمة أعلى منها مرتبة، ومنهم من يكون كسلانًا متخلفًا فينقل من خدمة إلى خدمة أدنى منها، ومنهم من يترك على شغله من غير تغيير، ومنهم من يقطع رسمه ويمحى من الجرائد اسمه، فكذلك عباد الله قد يكون المسلم عابدًا مقبلًا على العبادة مقبولًا للسعادة فينقل من مرتبة المؤمنين إلى درجة الموقنين وهي درجة المقربين ومنهم من يكون قليل الطاعة مشتغلًا بالخلاعة، فينقل إلى مرتبة دونه وهي مرتبة العصاة ومنزلة القساة، وقد يستصغر العيوب ويستكثر الذنوب فيخرج من العبادة محرومًا ويلحق بأهل العناد مرجومًا، ومنهم من يبقى في أول درجة الجنة وهم البله، فقال الله بشارة للمطيع الناهض {أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُوا} يعني أظنوا أنهم يتركون في أول المقامات لا، بل ينقلون إلى أعلى الدرجات كما قال تعالى: {والذين أُوتُوا العلم درجات} [المجادلة: 11] {فَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين دَرَجَةً} [النساء: 95].
وقال بضده للكسلان {أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءامَنَّا} يعني إذا قال آمنت ويتخلف بالعصيان يترك ويرضى منه، لا بل ينقل إلى مقام أدنى وهو مقام العاصي أو الكافر.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)}.
ذكر الله ما يوجب تسليتهم فقال: كذلك فعل الله بمن قبلكم ولم يتركهم بمجرد قولهم {آمنا} بل فرض عليهم الطاعات وأوجب عليهم وفي قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُوا} وجوه: الأول: قول مقاتل فليرين الله الثاني: فليظهرن الله الثالث: فليميزن الله، فالحاصل على هذا هو أن المفسرين ظنوا أن حمل الآية على ظاهرها يوجب تجدد علم الله والله عالم بالصادق والكاذب قبل الامتحان، فكيف يمكن أن يقال بعلمه عند الامتحان فنقول الآية محمولة على ظاهرها وذلك أن علم الله صفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع، فقبل التكليف كان الله يعلم أن زيدًا مثلا سيطيع وعمرًا سيعصي، ثم وقت التكليف والإتيان يعلم أنه مطيع والآخر عاص وبعد الإتيان يعلم أنه أطاع والآخر عصى ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال، وإنما المتغير المعلوم ونبين هذا بمثال من الحسيات ولله المثل الأعلى، وهو أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت من موضع وقوبل بوجهها جهة ولم تحرك ثم عبر عليها زيد لابسًا ثوبًا أبيض ظهر فيها زيد في ثوب أبيض، وإذا عبر عليها عمرو في لباس أصفر يظهر فيها كذلك فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديدًا تغيرت، أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت، أو يذهب فهمه إلى أنها في صقالتها اختلفت أو يخطر بباله أنها عن سكانها انتقلت، لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير الخارجات، فافهم علم الله من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال، فإن المرآة ممكنة التغير وعلم الله غير ممكن عليه ذلك فقوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُوا} يعني يقع ممن يعلم الله أن يطيع الطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم {وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} يعني من قال أنا مؤمن وكان صادقًا عند فرض العبادات يظهر منه ذلك ويعلم ومن قال ذلك وكان منافقًا كذلك يبين، وفي قوله: {الذين صَدَقُوا} بصيغة الفعل وقوله: {الكاذبين} باسم الفاعل فائدة مع أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة، وهي أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه والفعل الماضي لا يدل عليه كما يقال فلان شرب الخمر وفلان شارب الخمر وفلان نفذ أمره وفلان نافذ الأمر فإنه لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ، ومن اسم الفاعل يفهم ذلك إذا ثبت هذا فنقول وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أوائل إيجاب التكاليف وعن قوم مستديمين للكفر مستمرين عليه فقال في حق المؤمنين {الذين صَدَقُوا} بصيغة الفعل أي وجد منهم الصدق وقال في حق الكافر {الكاذبين} بالصيغة المنبئة عن الثبات والدوام ولهذا قال: {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] بلفظ اسم الفاعل، وذلك لأن في اليوم المذكور الصدق قد يرسخ في قلب المؤمن وهو اليوم الآخر ولا كذلك في أوائل الإسلام.
ثم قال تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون}.
لما بين حسن التكليف بقوله: {أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُوا} بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الاستقبال ولا يفوت الله شيء في الحال ولا في المآل، وهذا إبطال مذهب من يقول التكاليف إرشادات والإيعاد عليه ترغيب وترهيب ولا يوجد من الله تعذيب ولو كان يعذب ما كان عاجزًا عن العذاب عاجلًا فلم كان يؤخر العقاب فقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين يَعْلَمُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا} يعني ليس كما قالوا بل يعذب من يعذب ويثيب من يثيب بحكم الوعد والإيعاد والله لا يخلف الميعاد، وأما الإمهال فلا يفضي إلى الإهمال والتعجيل في جزاء الأعمال شغل من يخاف الفوت لولا الاستعجال.
ثم قال تعالى: {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} يعني حكمهم بأنهم يعصون ويخالفون أمر الله ولا يعاقبون حكم سيء فإن الحكم الحسن لا يكون إلا حكم العقل أو حكم الشرع والعقل لا يحكم على الله بذلك فإن الله له أن يفعل ما يريد والشرع حكمه بخلاف ما قالوه، فحكمهم حكم في غاية السوء والرداءة. اهـ.